سورة الإسراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجوه:
الأول: اعلم أنه تعالى لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محنة عظيمة من قومه وأهل زمانه، بين أن حال الأنبياء مع أهل زمانهم كذلك. ألا ترى أن أول الأولياء هو آدم، ثم إنه كان في محنة شديدة من إبليس.
الثاني: أن القوم إنما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين الكبر والحسد، أما الكبر فلأن تكبرهم كان يمنعهم من الإنقياد، وأما الحسد فلأنهم كانوا يحسدونه على ما آتاه الله من النبوة والدرجة العالية، فبين تعالى أن هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الخروج من الإيمان والدخول في الكفر، فهذه بلية قديمة ومحنة عظيمة للخلق.
والثالث: أنه تعالى لما وصفهم بقوله: {فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً} [الإسراء: 60] بين ما هو السبب لحصول هذا الطغيان وهو قول إبليس {لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} فلأجل هذا المقصود ذكر الله تعالى قصة إبليس وآدم، فهذا هو الكلام في كيفية النظم.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه القصة قد ذكرها الله تعالى في سور سبعة، وهي: البقرة والأعراف والحجر وهذه السورة والكهف وطه وص والكلام المستقصى فيها قد تقدم في البقرة والأعراف والحجر فلا فائدة في الإعادة ولا بأس بتعديد بعض المسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن المأمورين بالسجود لآدم أهم جميع الملائكة أم ملائكة الأرض على التخصيص، فظاهر لفظ الملائكة يفيد العموم إلا أن قوله تعالى في آخر سورة الأعراف في صفة ملائكة السموات {وله يسجدون} [الأعراف: 206] يوجب خروج ملائكة السموات من هذا العموم.
المسألة الثانية: أن المراد من هذه السجدة وضع الجبهة على الأرض أو التحية، وعلى التقدير الأول فآدم كان هو المسجود له أو يقال كان المسجود له هو الله تعالى وآدم كان قبلة للسجود؟
المسألة الثالثة: أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا؟ وإن لم يكن من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود كيف يتناوله؟
المسألة الرابعة: هل كان إبليس كافراً من أول الأمر أو يقال إنما كفر في ذلك الوقت؟
المسألة الخامسة: الملائكة سجدوا لآدم من أول ما كملت حياته أو بعد ذلك.
المسألة السادسة: شبهة إبليس في الامتناع من السجود أهو قوله: {أأسجد لمن خلقت طيناً} أو غيره.
المسألة السابعة: دلت هذه الآيات على أن إبليس كان عارفاً بربه، إلا أنه وقع في الكفر بسبب الكبر والحسد، ومنهم من أنكر وقال ما عرف الله ألبتة.
المسألة الثامنة: ما سبب حكمة إمهال إبليس وتسليطه على الخلق بالوسوسة؟
ولنرجع إلى التفسير فنقول: إنه تعالى حكى في هذه الآية عن إبليس نوعاً واحداً من العمل ونوعين من القول، أما العمل فهو أنه لم يسجد لآدم وهو المراد من قوله: {فسجدوا إلا إبليس} وأما النوعان من القول؟ فأولهما: قوله: {أأسجد لمن خلقت طيناً} وهذا استفهام بمعنى الإنكار معناه أن أصلي أشرف من أصله فوجب أن أكون أنا أشرف منه، والأشرف يقبح في العقول أمره بخدمة الأدنى. والنوع الثاني من كلامه: قوله: {أرأيتك هذا الذي كرمت علي} قال الزجاج: قوله: {أرأيتك} معناه أخبرني، وقد استقصينا في تفسير هذه الكلمة في سورة الأنعام. وقوله: {هذا الذي كرمت علي} فيه وجوه:
الأول: معناه: أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته علي وأنا خير منه؟ ثم اختصر الكلام لكونه مفهوماً.
الثاني: يمكن أن يقال هذا مبتدأ محذوف منه حرف الاستفهام، والذي مع صلته خبر، تقديره أخبرني أهذا الذي كرمته علي! وذلك على وجه الاستصغار والاستحقار، وإنما حذف حرف الاستفهام لأن حصوله في قوله: {أرأيتك} أغنى عن تكراره. والوجه الثالث: أن يكون {هذا} مفعول {أرأيت} لأن الكاف جاءت لمجرد الخطاب لا محل لها، كأنه قال على وجه التعجب والإنكار أبصرت أو علمت هذا الذي كرمت علي، بمعنى لو أبصرته أو علمته لكان يجب أن لا تكرمه علي، هذا هو حقيقة هذه الكلمة، ثم قال تعالى حكاية (عنه) {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} وفيه مباحث:
البحث الأول: قرأ ابن كثير {لئن أخرتني إلى يوم القيامة} بإثبات الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف ونافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف.
البحث الثاني: في الاحتناك قولان، أحدهما: أنه عبارة عن الأخذ بالكلية، يقال: أحتنك فلان ما عند فلان من مال إذا استقصاه وأخذه بالكلية، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله بالكلية.
والثاني: أنه من قول العرب حنك الدابة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به، وقال أبو مسلم: الاحتناك افتعال من الحنك كأنهم يملكهم كما يملك الفارس فرسه بلجامه. فعلى القول الأول معنى الآية لأستأصلنهم بالإغواء. وعلى القول الثاني لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها.
البحث الثالث: قوله: {إلا قليلاً} هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} [الإسراء: 65] فإن قيل كيف ظن إبليس هذا الظن الصادق بذرية آدم؟ قلنا فيه وجوه:
الأول: أنه سمع الملائكة يقولون: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} [البقرة: 30] فعرف هذه الأحوال.
الثاني: أنه وسوس إلى آدم فلم يجد له عزماً فقال الظاهر أن أولاده يكونون مثله في ضعف العزم.
الثالث: أنه عرف أنه مركب من قوة بهيمية شهوانية، وقوة سبعية غضبية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملكية، وعرف أن القوى الثلاث أعني الشهوانية والغضبية والوهمية تكون هي المستولية في أول الخلقة، ثم إن القوة العقلية إنما تكمل في آخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك كان ما ذكره إبليس لازماً، واعلم أنه تعالى لما حكى عن إبليس ذلك حكى عن نفسه أنه تعالى قال له اذهب، وهذا ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء وإنما معناه أمض لشأنك الذي اخترته، والمقصود التخلية وتفويض الأمر إليه.
ثم قال: {فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفوراً} ونظيره قول موسى عليه الصلاة والسلام {فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس} [طه: 97] فإن قيل أليس الأولى أن يقال: فإن جهنم جزاؤهم جزاء موفوراً. ليكون هذا الضمير راجعاً إلى قوله: {فمن تبعك}؟.
قلنا فيه وجوه:
الأول: التقدير فإن جهنم جزاؤهم وجزاؤكم ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل جزاؤكم.
والثاني: يجوز أن يكون هذا الخطاب مع الغائبين على طريقة الإلتفات.
والثالث: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل.
فلما كان إبليس هو الأصل في كل المعاصي صار المخاطب بالوعيد هو إبليس، ثم قال: {جزاء موفوراً} وهذه اللفظة قد تجيء متعدياً ولازماً، أما المتعدي فيقال: وفرته أفره وفراً (و) وفرة فهو (و) موفر، قال زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
واللازم كقوله: وفر المال يفر وفوراً فهو وافر، فعلى التقدير الأول: يكون المعنى جزاء موفوراً موفراً. وعلى الثاني: يكون المعنى جزاء موفوراً وافراً، وانتصب قوله: {جزاء} على المصدر.


{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)}
اعلم أن إبليس لما طلب من الله الإمهال إلى يوم القيامة لأجل أن يحتنك ذرية آدم فالله تعالى ذكر أشياء. أولها: قوله: {اذهب} [الإسراء: 63] ومعناه: أمهلتك هذه المدة.
وثانيها: قوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} يقال أفزه الخوف واستفزه أي أزعجه واستخفه، وصوته دعاؤه إلى معصية الله تعالى، وقيل: أراد بصوتك الغناء واللهو واللعب، ومعنى صيغة الأمر هنا التهديد كما يقال: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك.
وثالثها: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} في قوله: {وَأَجْلِبْ} وجوه:
الأول: قال الفراء: إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق، وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح.
الثاني: قال الزجاج في فعل وأفعل، أجلب على العدو إجلاباً إذا جمع عليه الخيول.
الثالث: قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه.
والرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، فقوله: وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج: أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله: بخيلك زائدة على هذا القول، وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا أيضاً يقرب من قول ابن الأعرابي، واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده، ويدخل فيه كل راكب وماشٍ في معصية الله تعالى، فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية.
والقول الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل.
والقول الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب، والخيل تقع على الفرسان.
قال عليه الصلاة والسلام: «يا خيل الله اركبي» وقد تقع على الأفراس خاصة، والمراد هاهنا الأول والرجل جمع راجل كما قالوا تاجر وتجر وصاحب وصحب وراكب وركب، وروى حفص عن عاصم ورجلك بكسر الجيم وغيره بالضم، قال أبو زيد يقال رجل ورجل بمعنى واحد ومثله حدث وحدث وندس وندس، قال ابن الأنباري: أخبرنا ثعلب عن الفراء قال: يقال رجل ورجل ورجلان بمعنى واحد. والنوع الرابع: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس قوله: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} نقول: أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة، وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن وأما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً قال قتادة: المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة، وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام، وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئاً لغير الله تعالى كما قال تعالى: {فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام: 136] والأصوب ما قاله القاضي، وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنها الدعاء إلى الزنا، وزيف الأصم ذلك بأن قال إنه لا ذم على الولد، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد وشاركهم في طريق تحصيل الولد وذلك بالدعاء إلى الزنا.
وثانيها: أن يسموا أولادهم بعبد اللات وعبد العزى.
وثالثها: أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة كاليهودية والنصرانية وغيرهما.
ورابعها: إقدامهم على قتل الأولاد ووأدهم.
وخامسها: ترغيبهم في حفظ الأشعار المشتملة على الفحش وترغيبهم في القتل والقتال والحرف الخبيثة الخسيسة والضابط أن يقال إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو قبيح فهو داخل فيه.
والنوع الخامس: من الأشياء التي ذكرها الله تعالى لإبليس في هذه الآية قوله: {وَعدهم}.
واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر ألبتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة، إذا ثبت هذا فنقول: إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلابد وأن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعله ألبتة، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة ألبتة في فعل هذه المعاصي، وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به، فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر:
خذوا بنصيب من سرور ولذة *** فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية، وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولاً عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين:
الأول: أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب.
والثاني: أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثاً محضاً فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار، فهذه مجامع تلبيس الشيطان، فقوله: {وَعِدهم} يتناول كل هذه الأقسام، قال المفسرون قوله: {وَعدهم} أي بأنه لا جنة ولا نار، وقال آخرون: {وَعِدهم} بتسويف التوبة، وقال آخرون {وَعِدهم} بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم: {مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] وقال آخرون: وعدهم بشفاعة الأصنام عند الله تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل، وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس، واعلم أن الله تعالى لما قال: {وَعِدهم} أردفه بما يكون زاجراً عن قبول وعده فقال: {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة ولا يدعو ألبتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته، وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة.
أحدها: أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام.
وثانيها: وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها.
وثالثها: أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض.
ورابعها: أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة.
وخامسها: أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة.
وسادسها: أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت.
فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة، كان الترغيب فيها تغريراً، ولهذا المعنى قال تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً}.
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} وفيه قولان:
الأول: أن المراد كل عباد الله من المكلفين، وهذا قول أبي علي الجبائي، قال والدليل عليه أن الله تعالى إستثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله: {إِلاَّ مَنِ اتبعك} [الحجر: 42] ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]. وأيضاً فلو قدر على هذه الأعمال لكان يجب أن يتخبط أهل الفضل وأهل العلم دون سائر الناس ليكون ضرره أعظم. ثم قال وإنما يزول عقله لا من جهة الشيطان لكن لغلبة الأخلاط الفاسدة ولا يمتنع أن يكون أحد أسباب ذلك المرض اعتقاد أن الشيطان يقدم عليه فيغلب الخوف فيحدث ذلك المرض.
والقول الثاني: أن المراد بقوله: {إِنَّ عِبَادِي} أهل الفضل والعلم والإيمان لما بينا فيما تقدم أن لفظ العباد في القرآن مخصوص بأهل الإيمان، والدليل عليه أنه قال في آية أخرى: {إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100].
ثم قال: {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} وفيه بحثان:
البحث الأول: أنه تعالى لما مكن إبليس من أن يأتي بأقصى ما يقدر عليه في باب الوسوسة، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان قال: {وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً} ومعناه أن الشيطان وإن كان قادراً فالله تعالى أقدر منه وأرحم بعباده من الكل فهو تعالى يدفع عنه كيد الشيطان ويعصمه من إضلاله وإغوائه.
البحث الثاني: هذه الآية تدل على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وأن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلالة، لأنه لو كان الإقدام على الحق والاحجام عن الباطل إنما يحصل للإنسان من نفسه لوجب أن يقال: وكفى الإنسان نفسه في الاحتراز عن الشيطان، فلما لم يقل ذلك بل قال: {وكفى بِرَبّكَ} علمنا أن الكل من الله، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: أن إبليس هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} هو إله العالم أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك ثم إنه تعالى قال: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا} [الإسراء: 63] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية مع أنه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أن هذا القائل هو إله العالم، فكيف قال: {قَالَ أَرَءيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عليَّ} [الإسراء: 62].
والجواب: لعله كان شاكاً في الكل أو كان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن.
والسؤال الثاني: ما الحكمة في أنه تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمراً وعلم أن شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله فإنه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع.
والجواب: أما مذهبنا فظاهر في هذا الباب، وأما المعتزلة فلهم قولان: قال الجبائي: علم الله تعالى أن الذين كفروا عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد إبليس، وإذا كان كذلك لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة، إلا أنه تعالى أبقاه تشديداً للتكليف على الخلق ليستحقوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثواب، وهذان الوجهان قد ذكرناهما في سورة الأعراف والحجر، وبالغنا في الكشف عنهما، والله أعلم.


{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)}
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته، وقد ذكرنا أن المقصود الأعظم في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد، فإذا امتد الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد، والمذكور هاهنا الوجوه المستنبطة من الإنعامات في أحوال ركوب البحر.
فالنوع الأول: كيفية حركة الفلك على وجه البحر وهو قوله: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِى لَكُمُ الفلك فِي البحر} والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حال، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله: {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88] والمعنى: ربكم الذي يسير الفلك على وجه البحر لتبتغوا من فضله في طلب التجارة إنه كان بكم رحيماً، والخطاب في قوله: {رَبُّكُمْ} وفي قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ} عام في حق الكل، والمراد من الرحمة منافع الدنيا ومصالحها.
والنوع الثاني: قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} والمراد من الضر، الخوف الشديد كخوف الغرق: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} والمراد أن الإنسان في تلك الحالة لا يتضرع إلى الصنم والشمس والقمر والملك والفلك.
وإنما يتضرع إلى الله تعالى، فلما نجاكم من الغرق والبحر وأخرجكم إلى البر أعرضتم عن الإيمان والإخلاص {وَكَانَ الإنسان كَفُورًا} لنعم الله بسبب أن عند الشدة يتمسك بفضله ورحمته، وعند الرخاء والراحة يعرض عنه ويتمسك بغيره.
والنوع الثالث: قوله: {أَفَأَمِنتُمْ أَن نَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ البر} قال الليث: الخسف والخسوف هو دخول الشيء في الشيء. يقال: عين خاسفة وهي التي غابت حدقتها في الرأس، وعين من الماء خاسفة أي غائرة الماء، وخسفت الشمس أي احتجبت وكأنها وقعت تحت حجاب أو دخلت في جحر. فقوله: {أن نَخْسِفْ بِكُمْ جَانِبَ البر} أي نغيبكم من جانب البر وهو الأرض، وإنما قال: {جَانِبَ البر} لأنه ذكر البحر في الآية الأولى فهو جانب، والبر جانب، خبر الله تعالى أنه كما قدر على أن يغيبهم في الماء فهو قادر أيضاً على أن يغيبهم في الأرض، فالغرق تغييب تحت الماء كما أن الخسف تغييب تحت التراب، وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أنهم كانوا خائفين من هول البحر، فلما نجاهم منه آمنوا، فقال: هب أنكم نجوتم من هول البحر فكيف أمنتم من هول البر؟ فإنه تعالى قادر على أن يسلط عليكم آفات البر من جانب التحت أو من جانب الفوق، أما من جانب التحت فبالخسف.
وأما من جانب الفوق فبإمطار الحجارة عليهم، وهو المراد من قوله: {أَوْ يرسل عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} فكما لا يتضرعون إلا إلى الله تعالى عند ركوب البحر، فكذلك يجب أن لا يتضرعوا إلا إليه في كل الأحوال. ومعنى الحصب في اللغة: الرمي. يقال: حصبت أحصب حصباً إذا رميت والحصب المرمي. ومنه قوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] أي يلقون فيها، ومعنى قوله: {حاصبا} أي عذاباً يحصبهم، أي يرميهم بحجارة، ويقال للريح التي تحمل التراب والحصباء حاصب، والسحاب الذي يرمي بالثلج والبرد يسمى حاصباً لأنه يرمي بهما رمياً.
وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء والحاصب على هذا ذو الحصباء مثل اللابن والتامر وقوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} يعني لا تجدوا ناصراً ينصركم ويصونكم من عذاب الله، ثم قال: {أَمْ أَمِنتُمْ أَن نُعِيدُكُمْ فِيهِ} أي في البحر تارة أخرى وقوله: {فَنُرسل علَيْكُمْ قَاصِفًا} من الريح القاصف الكاسر يقال: قصف الشيء يقصفه قصفاً إذا كسره بشدة، والقاصف من الريح التي تكسر الشجر، وأراد هاهنا ريحاً شديدة تقصف الفلك وتغرقهم وقوله: {فَنُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي بسبب كفركم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً.
قال الزجاج: أي لا تجدوا من يتبعنا بإنكار ما نزل بكم بأن يصرفه عنكم، وتبيع بمعنى تابع.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على ألفاظ خمسة: وهي قوله: {أن نَخْسِفْ}، {أَوْ نُرْسِلُ}، {أَوْ نُعِيدُكُمْ}، {فنرسل}، {فنغرقكم} قرأ ابن كثير وأبو عمرو جميع هذه الخمسة بالنون، والباقون بالياء، فمن قرأ بالياء، فلأن ما قبله على الواحد الغائب وهو قوله: {إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نجاكم} ومن قرأ بالنون فلأن هذا البحر من الكلام، قد ينقطع بعضه من بعض وهو سهل لأن المعنى واحد. ألا ترى أنه قد جاء {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إسراءيل أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً} [الإسراء: 2] فانتقل من الجمع إلى الأفراد وكذلك هاهنا يجوز أن ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى واحد والكل جائز، والله أعلم.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14